على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ | |
وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ | |
وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ | |
وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ | |
هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ | |
إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ | |
ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ | |
ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ | |
وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ | |
وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ | |
وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ | |
ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ | |
وكان يقضِّي المساءَ يحوك الشباكَ ويَحْلُمْ | |
يوسّدُهُ عُشُبٌ باردٌ عند نبع مغمغِمْ | |
ويسْهَرُ يرمُقُ وادي المساء ووجْهَ القَمَرْ | |
وقد عكستْهُ مياهُ غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ | |
وما كان يغفو إذا لم يَمُرّ الضياءُ اللذيذ | |
على شَفَتيهِ ويسقيهِ إغماءَ كأسِ نبيذْ | |
وما كان يشربُ من منبع الماء إلاّ إذا | |
أراق الهلالُ عليه غلائلَ سكرى الشَّذَى | |
2 | |
وفي ذات صيفٍ تسلّل هذا الغلامُ مساءْ | |
خفيفَ الخُطَى, عاريَ القدمين, مَشُوقَ الدماءْ | |
وسار وئيدًا وئيدًا إلى قمَّةٍ شاهقهْ | |
وخبّأ هيكلَهُ في حِمَى دَوْحةٍ باسقهْ | |
وراح يعُدّ الثواني بقلبٍ يدُقّ يدُقّ | |
وينتظرُ القَمَرَ العذْبَ والليلُ نشوانُ طَلْقُ | |
وفي لحظةٍ رَفَعَ الشَّرْقُ أستارَهُ المُعْتمهْ | |
ولاحَ الجبينُ اللجينيّ والفتنةُ المُلْهِمهْ | |
وكان قريبًا ولم يَرَ صيّادَنا الباسما | |
على التلِّ فانسابَ يذرَعُ أفْقَ الدُّجَى حالما | |
... وطوّقَهُ العاشقُ الجبليّ ومسّ جبينَهْ | |
وقبّلَ أهْدابَهُ الذائباتِ شذًى وليونهْ | |
وعاد به: ببحارِ الضِّياءِ, بكأس النعومهْ | |
بتلك الشفاهِ التي شَغَلتْ كل رؤيا قديمهْ | |
وأخفاه في كُوخه لا يَمَلّ إليه النَّظَرْ | |
أذلكَ حُلْمٌ? وكيف وقد صاد.. صادَ القَمرْ? | |
وأرقَدَه في مهادٍ عبيريّةِ الرّوْنقِ | |
وكلّلَهُ بالأغاني, بعيْنيهِ, بالزّنْبقِ | |
3 | |
وفي القريةِ الجبليّةِ, في حَلَقات السّمَرْ | |
وفي كلّ حقلٍ تَنَادَى المنادون: "أين القمر?!" | |
"وأين أشعّتُهُ المُخْمليّةُ في مَرْجنا?" | |
"وأين غلائلُهُ السُّحُبيّة في حقلنا?" | |
ونادت صبايا الجبالِ جميعًا "نُريدُ القَمَرْ!" | |
فردّدتِ القُنَنُ السامقاتُ: "نُريدُ القَمَرْ" | |
"مُسامِرُنا الذهبيّ وساقي صدى زَهْرنا" | |
"وساكبُ عطر السنابِل والورد في شَعْرنا" | |
"مُقَبّلُ كلّ الجِراح وساقي شفاه الورودْ" | |
"وناقلُ شوقِ الفَرَاشِ لينبوعِ ماءٍ بَرودْ" | |
"يضيءُ الطريقَ إلى كلّ حُلْمٍ بعيدِ القَرَارْ" | |
"ويُنْمي جدائلَنا ويُريقُ عليها النُّضَارْ" | |
"ومن أينَ تبرُدُ أهدابُنا إن فَقَدْنا القَمَر?" | |
"ومَنْ ذا يرقّقُ ألحاننا? مَن يغذّي السّمَرْ?" | |
ولحنُ الرعاةِ تردّدَ في وحشةٍ مضنيهْ | |
فضجّتْ برَجْعِ النشيدِ العرائشُ والأوديهْ | |
وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ | |
ودقّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ | |
وجُنّوا جُنُونًا ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ | |
ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: "نُريدُ القَمَرْ" | |
وطاف الصّدَى بجناحَيْهِ حول الجبالِ وطارْ | |
إلى عَرَباتِ النجومِ وحيثُ ينامُ النّهَارْ | |
وأشرَبَ من نارِهِ كلّ كأسٍ لزهرةِ فُلِّ | |
وأيقَظَ كلّ عبيرٍ غريبٍ وقَطْرةِ طلِّ | |
وجَمّعَ مِن سَكَراتِ الطبيعةِ صوتَ احتجاجْ | |
ترددَ عند عريش الغلامِ وراء السياجْ | |
وهزَّ السكونَ وصاحَ: "لماذا سَرَقْت القَمَرْ?" | |
فجُنّ المَسَاءُ ونادى: "وأينَ خَبَأْتَ القَمَرْ?" | |
4 | |
وفي الكوخِ كان الغلامُ يضُمّ الأسيرَ الضحوكْ | |
ويُمْطرُهُ بالدموع ويَصْرُخُ: "لن يأخذوك?" | |
وكان هُتَافُ الرّعاةِ يشُقّ إليهِ السكونْ | |
فيسقُطُ من روحه في هُوًى من أسًى وجنونْ | |
وراح يغنّي لملهِمه في جَوًى وانْفعالْ | |
ويخلطُ بالدَّمْع والملح ترنيمَهُ للجمالْ | |
ولكنّ صوتَ الجماهيرِ زادَ جُنونًا وثورهْ | |
وعاد يقلِّبُ حُلْمَ الغلامِ على حدِّ شفرهْ | |
ويهبطُ في سَمْعه كالرّصاص ثقيلَ المرورْ | |
ويهدمُ ما شيّدتْهُ خيالاتُهُ من قصور | |
وأين سيهرُبُ? أين يخبّئ هذا الجبينْ? | |
ويحميهِ من سَوْرة الشَّوْقِ في أعين الصائدين? | |
وفي أيّ شيء يلفّ أشعَّتَهُ يا سَمَاءْ | |
وأضواؤه تتحدّى المخابئَ في كبرياءْ? | |
ومرّتْ دقائقُ منفعِلاتٌ وقلبُ الغُلامْ | |
تمزِّقُهُ مُدْيةُ الشكِّ في حَيْرةٍ وظلامْ | |
وجاء بفأسٍ وراح يشقّ الثَّرَى في ضَجَرْ | |
ليدفِنَ هذا الأسيرَ الجميلَ, وأينَ المفرْ? | |
وراحَ يودِّعُهُ في اختناقٍ ويغسِلُ لونهْ | |
بأدمعِه ويصُبّ على حظِّهِ ألفَ لعنَهْ | |
5 | |
وحينَ استطاعَ الرّعاةُ المُلحّون هدْمَ الجدارْ | |
وتحطيمَ بوّابةِ الكوخ في تَعَبٍ وانبهارْ | |
تدفّقَ تيّارهم في هياجٍ عنيفٍ ونقمهْ | |
فماذا رأوا? أيّ يأسٍ عميق وأيّة صَدْمَهْ! | |
فلا شيءَ في الكوخ غيرَ السكون وغيرَ الظُّلَمْ | |
وأمّا الغُلامُ فقد نام مستَغْرَقًا في حُلُمْ | |
جدائلُهُ الشُّقْرُ مُنْسدلاتٌ على كَتِفَيهِ | |
وطيفُ ابتسامٍ تلكّأ يَحلُمُ في شفتيهِ | |
ووجهٌ كأنَّ أبولونَ شرّبَهُ بالوضاءهْ | |
وإغفاءةٌ هي سرّ الصَّفاءِ ومعنى البراءهْ | |
وحار الرُّعاةُ أيسرقُ هذا البريءُ القَمَرْ? | |
ألم يُخطِئوا الاتّهام ترى? ثمّ... أينَ القَمَرْ? | |
وعادوا حَيارى لأكواخهم يسألونَ الظلامْ | |
عن القَمَر العبقريّ أتاهَ وراءَ الغمامْ? | |
أم اختطفتْهُ السَّعالي وأخفتْهُ خلفَ الغيومْ | |
وراحتْ تكسّرُهُ لتغذّي ضياءَ النجومْ? | |
أمِ ابتلعَ البحرُ جبهتَهُ البضّةَ الزنبقيّهْ? | |
وأخفاهُ في قلعةٍ من لآلئ بيضٍ نقيّهْ? | |
أم الريحُ لم يُبْقِ طولُ التنقّلِ من خُفِّها | |
سوى مِزَقٍ خَلِقاتٍ فأخفتْهُ في كهفها | |
لتَصْنَعَ خُفّينِ من جِلْدِهِ اللّين اللَّبَنيّ | |
وأشرطةً من سَناهُ لهيكلها الزنبقي | |
6 | |
وجاء الصباحُ بَليلَ الخُطَى قمريّ البرُودْ | |
يتوّجُ جَبْهَتَهُ الغَسَقيَّةَ عِقْدُ ورُودْ | |
يجوبُ الفضاءَ وفي كفّه دورقٌ من جَمالْ | |
يرُشّ الندى والبُرودةَ والضوءَ فوق الجبالْ | |
ومرَّ على طَرَفَيْ قدمَيْه بكوخ الغُلامْ | |
ورشَّ عليه الضياءَ وقَطْرَ النَّدى والسَّلامْ | |
وراح يسيرُ لينجز أعمالَهُ في السُُّفُوحْ | |
يوزِّعُ ألوانَهُ ويُشِيعُ الرِّضا والوضوحْ | |
وهبَّ الغلامُ مِنَ النوم منتعشًا في انتشاءْ | |
فماذا رأى? يا نَدَى! يا شَذَى! يا رؤى! يا سماءْ! | |
هنالكَ في الساحةِ الطُّحْلُبيَّةِ, حيثُ الصباحْ | |
تعوَّدَ ألاَّ يَرَى غيرَ عُشْبٍ رَعَتْهُ الرياحْ | |
هنالكَ كانت تقومُ وتمتدّ في الجوِّ سِدْرَهْ | |
جدائلُها كُسِيَتْ خُضْرةً خِصْبةَ اللون ِثَرَّهْ | |
رعاها المساءُ وغذَّت شذاها شِفاه القَمَرْ | |
وأرضَعَها ضوءُه المختفي في الترابِ العَطِرْ | |
وأشربَ أغصانَها الناعماتِ رحيقَ شَذَاهُ | |
وصبَّ على لونها فضَّةً عُصِرَتْ من سَناهُ | |
وأثمارها? أيّ لونٍ غريبٍ وأيّ ابتكارْ | |
لقد حار فيها ضياءُ النجومِ وغارَ النّهارْ | |
وجُنّتْ بها الشَّجَراتُ المقلِّدَةُ الجامِدَهْ | |
فمنذ عصورٍ وأثمارُها لم تَزَلْ واحدهْ | |
فمن أيِّ أرضٍ خياليَّةٍ رَضَعَتْ? أيّ تُرْبهْ | |
سقتْها الجمالَ المفضَّضَ? أي ينابيعَ عذْبَهْ? | |
وأيةُ معجزةٍ لم يصِلْها خَيالُ الشَّجَرْ | |
جميعًا? فمن كلّ غُصْنٍ طريٍّ تَدَلَّى قَمَرْ | |
7 | |
ومرَّتْ عصورٌ وما عاد أهلُ القُرى يذكرون | |
حياةَ الغُلامِ الغريبِ الرُّؤى العبقريِّ الجُنون | |
وحتى الجبالُ طوتْ سرّه وتناستْ خطاهُ | |
وأقمارَهُ وأناشيدَهُ واندفاعَ مُناهُ | |
وكيف أعادَ لأهلِ القُرى الوالهين القَمَرْ | |
وأطلَقَهُ في السَّماءِ كما كانَ دونَ مقرْ | |
يجوبُ الفضاءَ ويَنْثرُ فيه النَّدَى والبُرودهْ | |
وشِبْهَ ضَبابٍ تحدّر من أمسياتٍ بعيدهْ | |
وهَمْسًا كأصداء نبعٍ تحدّر في عمْق كهفِ | |
يؤكّدُ أنَّ الغلامَ وقصّتَهُ حُلْمُ صيفِ |
[10:51 م
|
0
التعليقات
]
0 التعليقات
إرسال تعليق